عشر سنوات الروتين اليومي لأبي كريم من العمل إلى البار يلتقي برفاقه ، حيث المكان الذي يُفرغ كل واحد منهم ما في قلبه من آهات وأوجاع دفينة إزاء وطن مسلوب ،
[size=12]ويبقى الأمل في استرجاعه حلم يسكنهم في نومهم وفي يقظتهم، وعندما تلعب الكؤوس في الرؤوس يصبحون كالزجاج الشفاف ، فترى العيونُ تظهر ما بداخلهم من ألم وتتعاظم الأوجاع والجراح في أوصالهم وتزيد احتراقا في ساعات الليل يقظة وأحلاما . ملاذهم تلك السويعات التي يخلون فيها ببعضهم. يستقرئون على جبين الليل قصائد أوجاع ذلك الماضي وتجربةٌ حبِّ لعشق اسمه "الوطن" ذاك الذي أمسى في قلبهم حطاما. كل يحاول أن يسكبَ ما بداخله من حكايات مع الزمن الجلادِ ليصبح كبقايا الخمرِ الفائضة من الكؤوس الممتلئة، لعله يرمي عن كاهله ذلك الثقل الذي يحمله في روحه وجسده ، وعندما تلفظ القناني قطراتها الأخيرة ينهضون متثاقلين وهم يتعكزون على مؤخرة الليل متوسلين خطواتهم الهزيلة أن تجرجرهم إلى بيوتهم في أمان ليناموا من جديد على ذاكرة الماضي المعلق في سباتهم الذي يغطّ في لونه السرابي ولا يستيقظون إلا على رائحة الفطور المحتفلة بصباح يوم جديد، حيث يظل الأمل لعودة ولبداية أخرى. يجلس الواحد منهم مع زوجته مستوحشين الأهل و الأحباب آملين أن يرجعوا بأبنائهم إلى الوطن عندما تتوفر لديهم إمكانيات مادية تحتاج إلى التقشف والتوفير. وطنهم هناك مرهون بين إنفعالات الصيرورة والبقاء مصارعا عواصف خارجية تهب بسموم رياحها حارقة اليابس والأخضر والعالم في سكون متصدّع لا يأبه بما يجري في ذلك الوطن ولمواطنيه في المنافي القريبة والبعيدة . دعا أبو كريم ليلة كلّ أصدقائه ليشربوا على نفقته ، وبين صمت الكؤوسِ وضجيجِها وفكرةُ الخمرِ وجنونِها ، انفجرَ بركانهُ الرّابضُ في أعماق قلبهِ فكان في تلك اللحظة الراوي والمستمع . يروي تاريخه، معاناته وآهاته. تحدّث عن قصته التي طالما تردّد في البوح بها. قال لهم كل شيء حتى القصةَ الدفينةَ التي كانت مختفية وراء ستار ماض أليم. شرب حتى الثمالة فلم يعد هناك ما يفصلُ بين عقله و قلبه . فبدأ القلب يشكو العقلَ والعقلُ يملي على لسان أبي كريم الذي بدأ يقذف ُ كلمات قصته كالرصاص الملتهب. حقد دفينُ ُ يتملّكُهُ على ساديةِ أبيهِ التي صلبت روحه من غير أن تميتها. ـ لن أنسى يا أصدقائي انفصال والدي عن أمي. وتسلط زوجته عليّ أنا وأختي . كانت تحرمنا من الأكل وتقفل عليّ باب الغرفة وتضربني حتى يغمى عليّ. أما أختي فكانت خادمتها المطيعة، تكافئها بالشتم واللكم وترسل عليها وابلا من التوبيخات تنزل على سقف منزلنا الصغير كالرعد. صرختُ في وجهها لتكف عن إلإساءة لأختي، شَكت لأبي فلحِقني بالمسدس ساعتين في شوارع المخيم ... تصوروا ....! أطلق علي حوالي أربعين رصاصة ، لولا عناية الله التي أنقذتني منه لكنت في خبر كان على يد من يسمونه والدي . ضحك أبو كريم ضحكة مجلجلة يملأها حزن يَحرق قلبه ودموع تنهمر من عينيه لأول مرة في حياته ثم أضاف مُظهرا ابتسامة مصطنعة: وأنا في التاسعة من عمري أرسلني أبي لكي اشتري الشاي والسكر. وبينما صاحب الدكان يعدّ الأغراض التي طلبتها، وقعت عيناي على كعك طاجز رائحته تجعل الأمعاء تتحرك ومنظرها يجعل لعاب الجائع يسيل. كان الدكانجي مشغولا بتجهيز طلبي وكنت انا أراقبه بعيني بينما يدي تتسلل ببطىء حتى تمكنت من الكعك وبسرعة البرق أخفيتها داخل قميصي ولم أخرجها حتى وضعت زوجة أبي الشاي والخبز على الطاولة. أبصرني أبي فوقف بسرعة وكأن خبرا عاجلا استلمه من رئيس الفصيلة التي ينتمي إليها. كنت أراه طويلا ضخم الجثة. مازلت قاعدا حول تلك المائدة الصغيرة المستديرة. أنظر إليه وهو يزمجر واللعاب يخرج من فمه ويقع على وجهي وعيني وفمي المفتوح. _ من اين لك بالكعك يا ولد ... كيف حصلت عليها ... من أعطاها لك ... ولماذا .... ألم تخجل من نفسك ....؟ هل ينقصك شيئا يا عديم الحياء ... تساؤلات تنزل متتالية ... لم يترك لي الفرصة لكي اجيبه. أتدري ايها الغبي أن السرقة حرام ...؟ أتدري أن صاحبها تقطع يداه ...؟ أمسكَ بيدي وبدأ يركلني متجها بي إلى المحل الذي اشتريت منه الشاي والسكر، وكلما أحاول الوقوف يركلني برجليه طيلة الطريق وصوتي نحيل ينتحب إلى أن وقفنا أمام الدكان. فتح الدكانجي العجوز فاه مذعورا من منظري المختنق بالصراخ . صرخ في وجه أبي: أليس في قلبك رحمة؟ ماذا فعل لك الصبيُ لكي ينال منك كل هذا الضرب؟ _لقد سرق منك كعكا، وعليّ أن أربيه وأعلمه أن السرقة حرام. وانهال باللكمات على وجهي ... وعنقي ... وظهري والدكانجي العجوز حزين يريد إنقاذي لكن كيف له أن يقترب من ليث جائع يأكل طريدته!! _ كف عن ضربه حالا.. ..أليس في قلبك رحمة؟ دعه يأخذ ما يشاء من الدكان. لم يسمع أبي رجاء الدكانجي ولا توسّله. استمر في الضرب والشتم، صرخ الرجل في وجهه: _ أنا الذي أعطيته الكعك فلماذا تضربه؟ توقف أبي عن ضربي هنيهة، نظر إلى الرجل وقال له بامتعاض وخزي: أنت لم تعطه الكعك، فلا تزيدَ الطين بلة. إن الله لا يحب السرقة ولا الكذب. قال كلامه ذاك وجرني إلى البيت كما يُجَرّ ُ الخروف المذبوح للسلخ. بمجرد أن رأتني أختي على ذلك الحال انفجرت باكية، مشفقة على منظري، فانهال عليها أيضا يضربها وزوجة أبي تنظر إلينا بشماتة. بالمناسبة يا إخواني، زوجة أبي صغيرة في السن، جميلة لباسها يختلف عن لباس أمي وعن كل نساء المخيم. تلبس الفستان فتراه عليها كنساء المجلات، يدور نسيج الفستان ملتصقا بخصرها وبطنها وفخديها، سادلا حتى ساقيها، عيناها فيهما نظرة غاوية متيمة وأبي يغرقها بكلمات الغزل بالليل والنهار. عندما كانت أمي معه كان ينهال عليها بالضرب المبرح منذ فقدت رجليها تحت لغم وتشوه وجهها. ولم تعد قادرة على القيام بأشغال البيت. ينظر إليها بتقزز ونفور فلم تعد تستطع المكوث معه . غادرت فأرسل لها ورقة الطلاق. الساعة الثالثة والنصف صباحا، وأبو علي مازال ينفث ألمه الدفين وزمرته تستمع إليه في صمت إلى أن وقف ابنه أمامه ووشوش له في أذنيه. وقف أبو علي مذعورا ثم استأذن أصدقاءه وغادر إلى البيت. لاقته زوجته بالصراخ والبكاء. _ لماذا يا أبو علي؟ ماذا فعلنا لك حتى تمرغ سمعتنا في التراب. وأنا التي كنت أفتخر بك!؟ الشرطة يبحثون عنك. لقد انتهت حياتنا يا أبا علي ... انهيتها أنت ... بدأت تغصّ بالبكاء، ضمها ابنُها إلى صدره، ناظرا إلى أبيه باحتقار قائلا: _ لقد كشف البوليس مسروقاتِك التي كنت تخبئها بالمخزن. لم يتحمل أبو علي نظرة ابنه ... شعر بالخزي والعار ... رياح وعواصف من الغضب هبت من روحه بعد طول السكون، فانهال على ابنه بالركل والضرب. كانت الأم تصرخ، سمع الجيران الصراخ فاتصلوا بمركز الشرطة، فما هي إلا دقائق حتى وقف البوليس أمام الباب. وضع احد الشرطيين يدي أبي كريم في الاصفاد وقاداه إلى مركز الشرطة، وكان هو يصرخ في وجهيهما: طفولتي سُرِقت مني ... حياتي ... وطني ... لا أحد تكلم ... ماذا سرقت أنا؟ تلك الأثواب البالية والقطع الكهربائية؟! إنها ليست أكثر قيمة من الكعك.....! "